في بداية القرن الرابع عشر، حين تأسست الدولة العثمانية، كانت تلك مجرد إمارة صغيرة داخل حدود العالم الإسلامي تعتمد على فكرة الغزو ضد الكفار المسيحيين، وقد أخذت تلك الدولة الحدودية الصغيرة، تلك التى بدت غير مهمة حينئذ في التوسع بشكل تدريجي، وذلك بإخضاع وضم الأراضي التابعة لبيزنطة في الأناضول والبلقان، وقد صارت منذ عام 1517، حين ضمت إليها المنطقة العربية، أقوى دولة في عالم الإسلام.
وخلال عهد السلطان سليمان الأول ( 1520 1566م) تحولت الدولة العثمانية إلى قوة عالمية، وذلك بفضل النجاحات المتتابعة في الآفاق الكبيرة تلك التى تمتد من أوروبا الوسطى إلى المحيط الهندي، إلا أنه في غضون الحروب الطويلة في القرن السابع عشر مالت الكفة لصالح أوروبا. وهكذا أخذت تخبو القوة العثمانية بشكل متسارع بعد أن سادت القناعة بالتفوق الأوروبي في القرن الثامن عشر، وصارت الدولة العثمانية تخضع لأوروبا سياسيا واقتصاديا. وقد أدى الوجود الطويل لهذه الدولة، وابالضرورةلات سقوطها، إلى أن تتحول إلى معضلة في السياسة الأوروبية أو ما سمي بـ (( المسألة الشرقية )). وهكذا فقد استمرت الحياة السياسية العثمانية أسفل التأثير الأوروبي إلى سنة 1920.
ومع تغير الظروف على مدار مراحل متعددة كانت تتغير كذلك هياكل ومؤسسات تلك الدولة. فالتغيرات تلك التى حدثت في الهيكل الداخلي وفي التطور السياسي تبين كيف تحولت تلك الإمارة الحدودية في اخر القرن السادس عشر إلى دولة على النمط التقليدي للدول الكلاسيكية للشرق الأدنى، كالدولة الساسانية والدولة العباسية على نحو خاص. وهكذا كانت الدولة العثمانية في اخر القرن السادس عشر بما فيها من تقاليد الدولة والإدارة والسياسة المالية، والنظام الزراعي والعسكري، تمثل نموذجا عاليا لدولة متطورة في الشرق الأدنى. ومع ذلك التفوق الأوروبي العسكري والاقتصادي فى عصر انحدارها أثار الوعي لدى العثمانيين أنفسهم، بأن تقاليد دول الشرق الأدنى ربما عاشت زمنها ولم تعد تستطيع التكيف مع الحقبة الحديثة.
من تلك اللحظة يغدو التاريخ العثماني مجرد سرد وقائع لأشكال عفا عليها الزمن لمؤسسات إمبراطورية قديمة، إذ يتحول إلى تأريخ لمجربات دولة من دول الشرق الأدنى التكيف مع التحديات الاقتصادية والسياسية والثقافية لأوروبا. ولم يتخل الأتراك بشكل نهائي على ذلك المفهوم للدولة إلا بعد سنة 1924 والثورة الجذرية تلك التى شهدتها تركيا.
وبهذا الشكل يمثل العقد الأخير للقرن السادس عشر، خطا فاصلا يحلف التاريخ العثماني إلى نصفين. ويغطي ذلك الكتاب النصف الأول، حيثما يبين كيف قام العثمانيون بتكييف مؤسسات دول الشرق الأدنى ثم كيف أخذت تلك المؤسسات تنهار أمام أوروبا الحديثة.